سلسلة حلقات اقتصادية – الحلقة 12 : الانكماش الاقتصادي ما هو الانكماش الاقتصادي ؟ الانكماش Deflation هو عكس التضخم ، حيث هبوط مستوى الأسعار وتراجع النمو . ويمكن تعريف الانكماش الاقتصادي من خلال آثاره ونتائجه المترتبة على خمول الحركة الاقتصادية وتباطؤها . كيف يمكن الاستدلال على الانكماش الاقتصادي ؟ يمكن الاستدلال على الانكماش الاقتصادي من خلال المؤشرات الثلاثة الأساسية في الاقتصاد : مستوى الأسعار ، العمالة وميزان المدفوعات . وفي حالة الانكماش تنخفض الأسعار على عكس التضخم ، وتزداد البطالة ويتحقق فائض في ميزان المدفوعات . وإذا كان الانكماش يمثل حالة عكسية تماماً للتضخم مماثلة له في ظواهره ، ولكن بطريقة سلبية ، إلا أنهما يعبران في نفس الوقت عن الاختلال في البناء الاقتصادي وفي النظام النقدي . فالتضخم والانكماش سوف يؤديان إلى سوء استخدام النقود ، وخروجها عن وظائفها الأساسية ، وتدهور النظام النقدي . ما هي نتائج وآثار الانكماش الاقتصادي ؟ يؤدي الانكماش الاقتصادي إلى تعطيل دور النقود في النشاط الاقتصادي وامتصاص الزيادة في الرصيد النقدي ، والتقييد من الإنفاق بأنواعه الثلاثة ( الحكومي ، الخاص ، الاستثماري ) ، وحصر النشاط الحكومي ونشاط المشاريع التجارية وحجم الائتمان . ومن ثم يقل النشاط الإنتاجي ، وتتجمد معدلات النمو ، وتعود الأسعار إلى الهبوط . وإذا كان النظام النقدي يختل أثناء التضخم ، وتتم عمليات الاستثمار والادخار عن طريق الاستبدال النقدي ( أي انتقال رؤوس الأموال في عملة إلى أخرى ) ، وتنهار وظيفة النقود كمخزن للقيمة وتنشط وظيفتها كوسيط للمبادلة ، فإن الانكماش بما يعنيه من توافر حجم ضئيل من الكمية النقدية ( السيولة ) ، لا يتناسب مع احتياجات التداول ، سوف يؤدي إلى تفضيل النقود كمخزن للقيمة ( الادخار ) عن وظيفتها كوسيط للمبادلة ، ولسوف تتعطل النقود في أشكال سائلة أو مكتنزة . وكذلك في حالة الانكماش لن تستخدم النقود في النشاط الاستثماري أو النشاط الاستهلاكي ( حيث ينخفض الاستهلاك الفردي وتقلل الأسر من مصاريفها ) ، وتقل حركة المدفوعات وتبطئ دورة التداول : ( سلع – نقود ) ، وينكمش الجهاز المصرفي ، ويتناقص حجم الائتمان ، وتنعدم حركة التمويل . وتحتفظ المشاريع التجارية أيضاً بكثير من أصولها في شكل نقدي أو مالي ، بدلاً من أن تحولها إلى استثمارات حقيقية جديدة أو تستخدمها في استبدال الطاقة الإنتاجية المستهلكة ، وبالتالي تكف عن زيادة الإنفاق والتوسع . الانكماش وأثره على الأسعار : ينعكس الاختلال أيضاً في الانكماش على نظام الأسعار ، فهو يؤدي إلى الاختلال في الأسعار النسبية بطريقة معاكسة للتضخم ، فيحدث انخفاض في الأسعار ، ولكنه يتم بطريقة غير متوازنة ومتفاوتة حسب الأهمية النسبية للسلع والخدمات . فهناك بعض السلع تحقق معدلات انخفاض مرتفعة في أسعارها ، يقابلها سلع أخرى تنخفض أسعارها بدرجة أقل ، وبذلك تختل معدلات المبادلة بين هذه السلع . وتتغير كذلك تكاليف عناصر الإنتاج ، وتنخفض مداخيل العمل ( الأجور ) بنسبة أكبر من أسعار السلع الاستهلاكية ، وتتفاقم البطالة ، ويقل الطلب على السلع ، فينخفض الإنتاج وينعدم النمو . كيف تتم معالجة الانكماش الاقتصادي ؟ تتبع السلطات الحكومية والنقدية سياسة لمعالجة الانكماش تستند إلى تحريك العجلة الاقتصادية ودفع المجتمع إلى الاستثمار وزيادة النمو ، أولاً عن طريق تطبيق سياسة اقتصادية فعالة وثانياً عن طريق سياسة نقدية مكملة للسياسة الاقتصادية . ففيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية ، تقوم الدولة بخفض معدلات الضرائب ، وذلك لإبقاء أكبر قدر ممكن من النقود في أيدي أفراد المجتمع ، وذلك في خطوة لمساعدتهم على تخفيف الأعباء المالية تحفيزاً لهم لزيادة الاستثمار والاستهلاك ، لأن زيادة الاستثمار تخلق فرصاً جديدة للعمل ، وبالتالي يهبط مستوى البطالة ، وتزيد من الحركة الاقتصادية وترفع النمو الاقتصادي . وزيادة الاستهلاك من شأنها أن ترفع الطلب على السلع ، وبالتالي تحفز المستثمرين على الإنتاج ، وهذا يؤدي في النهاية إلى زيادة النمو . إضافة إلى بعض الإعفاءات من الضرائب لتحفيز الاستثمار . كما أن الدولة تعمل على زيادة إنفاقها على المشاريع العامة المنتجة كبناء الطرق والمؤسسات والأعمال العامة ذات المنفعة الاجتماعية والتقديمات ، وهذه بدورها تزيد من الحركة الاقتصادية . أما فيما يتعلق بالسياسة النقدية فيلجأ البنك المركزي إلى خفض معدلات الفائدة من أجل زيادة حجم الإقراض ، بخاصة الإقراض الذي يهدف إلى الاستثمار وبناء مشاريع تجارية جديدة . فالناس سوف يتوجهون بشكل أكبر إلى البنوك التجارية للاقتراض حين تكون الفائدة على القروض منخفضة . كما يلجأ البنك المركزي وفي الحالات الطارئة إلى رفع مستوى السيولة في المجتمع بشكل مباشر عن طريق ضخ أموال نقدية في القطاع المصرفي . إن كل السياسة المعالجة للانكماش سواء أكانت اقتصادية أو نقدية تصب في هدف رفع السيولة من أجل التحفيز على الاستثمار ، ورفع مستوى الإنتاج والنمو الاقتصادي . الكساد الاقتصادي : الكساد هو الوضعية الكارثية التي يصل إليها الاقتصاد بعد مرحلة الانكماش إذا ما عجزت السلطات الحكومية والنقدية في معالجته . تبدأ الدورة الاقتصادية بالازدهار ( النمو أو التوسع ) Expansion ، ثم الانكماش Deflation ( التراجع ) ، ثم الكساد ( الركود ) Depression ، وهو يعتبر قعر الدورة الاقتصادية حيث تكثر الإفلاسات والشركات الخاسرة وتراجع النمو الحاد والعجز التجاري ، وكل ما هو كارثي ، كما حصل في أمريكا إثر أزمة عام 1929 ، التي تعتبر أكبر أزمة اقتصادية في العالم ، والتي تحدثنا عنها في الحلقة 9 . الانكماش في الولايات المتحدة : تمر الولاياتالمتحدة اليوم في مرحلة من الانكماش الاقتصادي باتت واضحة ، فتخفيض الفوائد يتم بنسب مرتفعة ، وأحياناً بأعلى من التوقعات . وقد بدأت مسيرة التخفيض في 18 أيلول سبتمبر 2007 حيث خفض البنك المركزي معدل الفائدة بأعلى من التوقعات بمعدل 0.5 % ، وتوالت التخفيضات ( 0.25 % في تشرين الأول أكتوبر 2007 ، 0.25 % في 11 كانون الأول ديسمبر 2007 ، 0.75 % في 22 كانون الثاني يناير 2008 في اجتماع طارئ للمركزي ووقت غير متوقع ، 0.5 % في 30 كانون الثاني يناير 2008 ) وصولاً إلى التخفيض مؤخراً 0.75 % في 18 آذار مارس 2008 ، ومن المتوقع أيضاً استمرار هذا المسلسل على المدى المنظور . كما أعلن البنك المركزي عن عدد من خطوات ضخ مباشر وطارئ للسيولة النقدية في السوق ، كان آخرها ضخ 200 مليار دولار في 11 آذار مارس 2008 . وقد أعلنت الحكومة الأمريكية أيضاً عن تخفيض معدلات الضرائب ، بخاصة على المشاريع التجارية . كل هذا الوضع المأساوي في الولايات المتحدة انفجر في ما يعرف بأزمة الرهون العقارية ، والتي هي عبارة عن تراكم أزمات بدأت مع بداية القرن الحالي ، حيث عجز المجتمع الأمريكي عن تسديد القروض المصرفية على التسليفات العقارية وازدادت القروض عالية المخاطر . وإذا ما ألقينا نظرة على الوضع الاقتصادي في الربع الأول من العام 2008 ، لوجدنا بشكل واضح هبوط معظم المؤشرات والقطاعات الاقتصادية ، بخاصة النمو والإنتاج والعمالة والقطاع الصناعي والقطاع العقاري . فالجداول التالية تظهر هبوطاً ( باللون الأحمر ) في نتائج معظم التقارير الاقتصادية الأمريكية ، وكلها مؤشرات على حالة الانكماش الاقتصادي التي تمر بها الولايات المتحدة اليوم : تأثير الانكماش الاقتصادي على حركة العملات : يؤدي الانكماش الاقتصادي إلى اختلال الاستقرار النقدي وتراجع النمو وهروب الرساميل وتضرر الاقتصاد كما ذكرنا ، وهذا بطبيعة الحال سوف ينعكس سلباً على قيمة وسعر العملة ، وبالتالي يؤدي إلى هبوطها بشكل حاد . وبالعودة إلى وضع الولايات المتحدة ، فإننا نلاحظ الهبوط الحاد في سعر الدولار في فترة الانكماش الحالية .